بقلم / الاستاذ أمين عزام
الهجرةُ دروسٌ و عِبَر “”
إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” ..
نعم لقد غيّر النبيُّ موقعه و لم يغير موقفه فأصحابُ المبادئِ ثابتونَ لا يتغيّرون. لقد تحمل رسولُ الله الأذى الكثيرَ من أهلِ مكة و كذلك أهل الطائف عندما دعاهم للإسلام و كانت هِجرتُه صلى الله عليه وسلم رحمةً لأهلِ مكة أنفسُهم لأنه لو زادَ تعنتُهم و أذاهُم لرسولِ الله لنزل عليهمُ العذاب.. وعندما أَذِن اللهُ لرسولِه بالهجرة أخبر أبا بكر الصدِّيق بذلك فقال له أبو بكر :
“الصُّحبة يا رسولَ الله” فوافقه النبي فبكي أبو بكر بكاءًا شديدًا من شدَّة الفرح حتي قالت عائشة: “والله ما شعرتُ قط قبلَ ذلك اليومِ أن أحدًا يبكي من الفرحِ ، حتى رأيتُ أبا بكر يبكي يومئذ” .. و أبو بكر صاحبُ النبي قبلَ البعثةِ ، و صاحبُه في الهجرة ، و في الغار ، و صاحبُه على الحوض يومَ القيامة كما أخبر بذلك رسول الله : “أنت صاحِبي على الحوضِ يا أبا بكر” وخرج النبي مهاجرًا بعد أن اجتمع أهلُ قريش في دارِ النَّدوة في أخطرِ اجتماعٍ في التاريخ حيث قرّروا التخلُّص من محمد صلي الله عليه وسلم ودعوته ، و أن يتفرَّق دمُه بين القبائِل فجاءَ الأمرُ من الله لرسوله .. لا تَنَمْ في بيتِك الليلة يا رسولَ الله. و جاءَ رسولُ الله بعلي بن أبي طالب وأمره بالنوم في مكانه ، و أن يتغطي ببُردته الشريفَة ..
و التفَّ حولَ بيتِ النبي في تلك الليلة أربعون شابًا في يد كل واحدٍ منهم سيفًا.. فكيف نام علي بن أبي طالب ليلةً كهذه الليلة؟ لما سُئل علي بن أبي طالب كيف نمت هذه الليلة يا علي ؟ قال : والله لم أَنَمْ ليلةً أهدأ منها لأن رسول الله طمأنني وقال لي : لَن يصلوا إليك يا علي ونام عليّ مكان رسول الله وجاءَه رسولُ الله ليخبره عن الودائع لكي يردها إلى أصحابها.. هم يريدون قتله و هو -صلى الله عليه وسلم- يردُّ إليهِم أماناتهم! و هَمَّ النبي بالخروج فإذا بالجمع هذا حولَ بيته ملتفًا .. فخرج النبي و رمي عليهم التراب وتلا قول الحق : “وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ” الآن يصطحِبُ النبيُّ أبا بكر ، و يغير رسولُ الله الطريق المعتادَ إلى المدينة ويذهب ناحية الجنوب ، و يصعد النبي الغارَ ثم ينظرُ إلى مكة وهو يبكي ويقول : والله إنك لأحبُّ البلاد إلى الله و إلى قلبي ، و لولا أنَّ أهلك أخرجوني منك ما خرجت. ليضرب لنا النبي صلي الله عليه وسلم أعظم الأمثلةِ في حبِّ الأوطان . و إذا بجبريلَ ينزلُ بأمر من ربه على قلب النبي بآيات تتلي إلى أن يَرِث اللهُ الأرضَ و من عليها من سورة القصص :
“وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين” كأن الله يريد أن يطبطب على قلب نبيه بأنك لست أول من هاجر يا رسول الله و ترك وطنه فقد سبقك موسى عليه السلام، و غيره من الأنبياء ثم يقول الله له في نهاية السورة: “إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ” سوف تعود إلى مكَّة ياَ الله في وقتٍ وَقَّتْناهُ ، و زَمَنٍ حدَّدْنَاه. ويدخل النبيُّ الغار فيقول له أبو بكر: على رسلك يا رسول الله أنا أدخل أولاً ..
ويدخلُ أبو بكر لكي يُهَيِّأَ المكانَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يدخل النبي. و يمكث أبو بكر مع رسولِ الله في الغار ثلاث ليال يقول فيها عمر ابن الخطاب: ” ليلة واحدة من ليالي أبو بكر في الغارِ مع النبي بعمر و آل عمر “. و لم يتبقَّ من الطعامِ الذي معهم في ليلةٍ من تلك الليالي إلَّا مزقة لبن.. يقول أبو بكر : “أعطيتُها لرسول الله فشرب و ارتويت أنا”.
ويصعد الجبل نفرٌ من قريش و يَراهم أبو بكر والنبي ، ويقول أبو بكر للنبي : “يا رسول الله لو نظر أحدُهم تحتَ قدميه لرآنا”. فيُطمئنه رسولُ الله ويقول له : “يا أبا بكر ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما”. و تستمرُّ الرحلة و أبو بكر يمشي تارةً عن يمينِ النبيِّ ، و تارةً عن يسارِه ، و تارةً أمامَه ، و تارةً خلفَه فيتعجب النبيُّ لهذا الصَّنيع فيقول أبو بكر : أظنُّ أحدًا سوف يهاجُمنا من ناحية اليمين فأُسرِع ناحية اليمين كي أكون فداءًا لك يا رسول الله ، وهكذا في باقي الاتجاهات.
و يأتي سُراقة بن مالك طَمعًا في الجائِزة التي رصدتها قريش لمن يأتي بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم حيًا أو ميتًا. فلما رآه النبي قال : ”اللهم أكفينيه بما شئت كيفما شئت إنك على ما تشاء قدير”. فغاصَت أقدام الفرسِ في الرمال و وقع سراقة مرةً تِلو الأُخرى فقال سراقة : “يا محمد أعطني الأمان”. سبحان الله من يعطي مَن الأمانَ في ذلك الموقف! ثم يقول سراقة : كنت سوف أحصل على مائة ناقةٍ فبماذا تَعِدُني فقال النبي : لك سِواريْ كِسْرَى ، و كُتِبَ بين النبي صلي الله عليه و سلم وبين سراقة كتابًا بذلك. (و بالفعل تمر الأيامُ ويموتُ النبي ويموتُ أبو بكر ، و يتولى عمر الخلافة و تُفتح مدائن كسرى و يُؤتَي بسواريْ كِسْرَى أمامه فينادي عمر بن الخطاب و هو يبكي : “أين سراقة بن مالك؟ هذه قسمةٌ معودةٌ من عشرين عامًا و صدقَ رسولُ الله”.
و يلبسها عمر لسراقة بن مالك.) و بعد وعد النبي لسراقة يُكمل النبيُّ هِجرته ، و يدخلُ النبيُّ قِبَاء ويبني بها مسجدًا قبل دخوله المدينةَ المنورة ، و ينزل فيه قول الحق : “لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ” ويقول فيه النبي أنَّه مَن توضأ فِي بيتِه وأتى مسجدَ قِباء و صلي فيه ركعتينِ كُتبت له كأجر عُمرة. و مِن أهم الدروسِ المستفادة من الهجرةِ هو الأخذُ بالأسبابِ مع حُسنِ التَّوكُّل على الله. فقد أخذ الحبيبُ صلى الله عليهِ و سلم بأقْصي الأسبابِ البشرِيَّة في الهجرة فخرج مع أبي بكر في طريقٍ غير مألوفٍ و غير مُتوقعٍ ، و استأْجَر دليلًا خبيرًا في الطُّرقاتِ وهو عبد الله بن أُريْقِط ، و كانت السيدةُ أسماء تذهبُ لهم بالطعامِ وهي حاملٌ في شهرها الثامِن ، و كان عامرُ بن فهيرة يسيرُ بالغنمِ بالخلف ليزيلَ آثارَ الأقدام ، فقد احتَاطَ النبيُّ صَلى الله عليهِ وسلم بأقْصَي درجاتِ الأخذِ بالأسبابِ ، وهذا لا يتعارضُ معَ حسنِ التوكلِ على الله و الذي تَجَلَّي في قول النبيِّ صلي الله عليه وسلم: “لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا”.
“الهجرةُ دروسٌ و عِبَر ” موضوعات مضيئة فى الاسلام “
للمزيد من الاخبار اضغط هنا
لا تعليق